نيتشه والإنسان الأعلى │ في الحضارة

230.61k views4719 WordsCopy TextShare
AlarabyTube - العربي تيوب
هل كان نيتشه يكره الدين ويدعو للإلحاد؟ وهل كان حقا يحتقر المرأة كما عُرف عنه؟ وما علاقته بالنازية وه...
Video Transcript:
يا حبيبي! آه يا "شلبي"! يبرّد عليك نار جنهم يا حبيبي!
يا اللي كنت محلّياك ومهنّياك يا "شلبوكة"! آه! ادعيله.
. . هو أكيد في مكان أحسن.
احكيلي يا "سعدني"، إيه اللي حصل؟! هو قال إيه قبل ما يموت؟ مش عارف والله يا "مدحت"! الراجل كان واقف في وسطينا، وفجأة، وقع مرة واحدة!
يعني ما حدش فيكم ضايجه ولّا عصّبه؟ عصّبه إيه بس؟ دا كان روحه فينا. طب هو. .
. هو ما كانش بيشتكي من حاجة؟ منك يا "مدحت". كان بيشتكي منك.
منّي؟ "موحة"، قول حاجة. . .
دا بيقولّك كان بيشتكي منّي! قول، ما تخافش! أنا ما بقيتش أخاف منك!
انت اللي قهرت أبوك لحد ما وقع مننا. أنا؟! انت عايز تقول.
. . !
? I killed my dad قانونًا، انت سليم، لكن في العُرف والرجولة، انت افتريت على أبوك، وهو ما استحملش! دخلت هنا ازاي يا لا؟!
دا أنا موقّفلك كلبين حراسة برة، مشممهم ريحتك المعفنة! "رعد" و"ريكس"؟! دُول إخواتي.
الواد دا كدّاب! الواد دا بيقول كدا، عشان أنا خطبت "ريم"، اللي هو كان عايز يخطبها قبلي! قُطعت الواطية، اللي ما بتفهمش في الأصول، هي ما جاتش تعزّي ليه يا ولا؟!
بتقول عندها "تارجت" في الشغل. "تارجيت"؟! هي البت دي بتدخّن؟!
استهدا بالله يا عم "المفتش (كرومبو)" انت كمان! يا جماعة، ما يصحش كدا، مش وقته الكلام دا! إلا صحيح يا أستاذ "سعدني"، عم "شلبي" كان بيعمل إيه عندك امبارح في نُص الليل؟ تقصد إيه يا مِدَهوِل؟ إن هو اللي قتل "شلبي"، علشان ياخد الشقة؟ يا ولية!
يا ولية، دا أنا كنت آويه من جبروتك! دا انتي كنتي محرّجة على السكان يكلّموه! فضلتي منكّدة عليه انتي والمحروس ابنك دا، لحد ما جبتوله أمراض الدنيا!
آخر حد كنت أتوجّعه! انتي يا ست "نادية"؟! حتى انت يا مِدَهوِل؟!
هي الست أم بالونة دي وِلِيّة كهينة! أوي! واضح إن الموضوع معجّد جَوي!
لأ، واضح إنك انت قاعد تشككنا في بعض، ونسيت انت عملت إيه في عم "شلبي". عملت إيه يعني؟ عملت إيه؟! كنت بتنخصّر يا أخويا من فلوس الطلبات، وبتقولّه إنك حاسبته!
شككتلنا الراجل في ذاكرته! ما حصلش! ما تتكلم يا أستاذ "مدحت"!
لأ، حصل! أيوة يا أخويا، وكنت بتشرّبه العرقسوس، وتحلفله بالله العظيم إنه تمر هندي، هتنكر؟! دا ليلة ما مات يا راجل، كان باعتك تجيبله عَشا، اتأخرت عليه.
أنا كنت بأخاف عليه! والأكل بالليل خطر! يا حبيبي!
عاش ظريف، ومات خفيف، يا حبيبي! آه يا "شلبي"! لقد مات عم "شلبي"!
آه يا "شلبي"! ونحن مَن قتلناه! آه يا حبيبي!
آه يا "شلبي"! آه! إيه يا عم المرحوم؟!
رَن، رَن، رَن، رَن! لأ، الحمد لله، ما حدش شك في حاجة. يلّا، قابلني على السطح بقى، عشان محتاجين نتكلم!
كان يا ما كان، صديقي الإنسان، في سالف العصر والزمان، نَبي هُمام اسمه "زرادشت"، لمّا وصل "زرادشت" لسن الـ30، اكتشف إن ما لهوش عيشة وسط الناس، لا هو فاهم حد، ولا حد فاهمه! ويا بخت من ريّح وارتاح! قرر إنه يسيب بلده والبحيرة الجميلة اللي بتطل على بيته، وراح عاش لوحده في الجبل.
قدِر هناك يستمتع بالهدوء والوحدة، بعيد عن زحمة الناس وحواراتهم اللي ما بتخلصش. وبقى يصحى كل يوم يكلّم الشمس، ويبات كل يوم يكلّم القمر. وتمر الأيام والشهور والسنين، و"زرادشت" متفرغ للتأمل ومرتاح من وجع الدماغ، لحد ما في يوم فكّر، وقال للشمس: "يا شمس، رغم إنك شمس، وإنك أكبر مننا كلنا، لكن حياتك كانت هتكون تعيسة، لو ما كانش عندك كائنات زينا كدا، تطلعي عليهم كل يوم، تدفّيهم وتنوريلهم حياتهم.
لولايا أنا، والنسر اللي هناك دا، والتِعبان اللي نفسه يقرُمني من ساعة ما جيت عِشت في الجبل هنا، كانت حياتك يا شمس هتكون بلا معنى. أنا كمان يا شمس، زي ما بأشوفك بتنزلي للأعماق كل يوم كدا، عشان تنوري للكائنات حياتهم، عايز أعمل زيك، أنا كمان، هأسيب الجبل، وهأنزل للناس. (زرادشت) يريد أن يغدو إنسانًا من جديد.
" وينزل "زرادشت" وحيدًا في اتجاه السفوح. ما بيقابلش حد في طريقه لحد ما يوصل للغابة، ويلاقي شيخ مُسِنّ وحيد هو كمان، سايب كهفه، ونازل يجمّع أغصان الشجر. قال الشيخ العجوز في نفسه أول ما شاف "زرادشت": "أنا عارف الجدع دا، عدّى عليا من هنا قبل سنين!
وكان اسمه. . .
(زرادشت)؟! كان إنسان مَطفي، شايل رماده للجبل. لكنه النهاردة، راجع للوادي منوّر، عينه صافية، وعلامات الاشمئزاز اللي كانت على وشه اختفت، ماشي مُقبِل على الحياة زي الأطفال، فايق (زرادشت)، لكن ليه يا ترى واخد نفسه، ورايح للناس النايمين في غفلتهم مرة تانية؟!
" ويقرر يسأله الشيخ بصوت عالي ويقولّه: "(زرادشت)، لقد كنت في عزلتك كما لو كنت في بحر، وكان البحر شايلك وصاينك، ويحك! أتريد أن تجرجر نفسك من جديد؟! " "ويحك" دي، صديقي الإنسان، اختصار لغوي لجملة "انت إيه حكاية.
. . !
" فيقولّه "زرادشت": "إنني أحب البشر. " فيقولّه الشيخ: "وانت فاكرني جابني الأرض وخلّاني أسيب الدنيا، وآجي أقعد لوحدي هنا، غير حُبّي للبشر؟! لكني دلوقتي، أحب الله.
أما البشر، فلا أحبهم. فالإنسان شيء فادح النقص في نظري. وحُبي للناس كفيل إنه يدمر حياتي.
" فيقولّه "زرادشت": "أنا جاي بهدية للبشر. " فيقولّه الشيخ: "إياك تدّيهم حاجة! بالكتير، ابعد عنهم، وكُفّ آذاهم عن نفسك، وتبقى شيلت من عليهم وزر أذيتك.
ولو هتدّي الناس حاجة، ما تدّيهومش غير صدقة، وتدّيهالهم بس وهما نازلين على ركبهم بيتوسلولك! " فيسأله "زرادشت" ويقولّه: "انت بتعمل إيه هنا في وحدتك يا شيخ؟" فيقولّه الشيخ: "ما فيش، بألّف أناشيد، وأغنّي، وأسبّح ربنا. وانت يا (زرادشت) يا ابني، يا ترى إيه الهدية اللي انت جايلنا بيها؟" فـ"زرادشت" يقولّه: "بقى انت كل يوم قاعد تغنّي وتسبّح لربنا، ومستني منّي أنا هدية؟!
لأ، دا أنا على كدا هأمشي من قُدّامك، قبل ما أسلبك راحتك في الدنيا! " وسابه "زرادشت" ومشي، وهو بيقول لنفسه: "غريب أمر الراجل العجوز دا! بقى عايش كل دا في الغابة، ولسة ما سمعش إن الإله مات؟!
" ويدخل "زرادشت" أول مدينة على طرف الغابة، ويلاقي البشر متجمعين في السوق، مستنيين بهلوان كان جاي يقدّم عرض. فيطلع "زرادشت" على المسرح ويقول للناس: "أيها الناس، إنني أعلّمكم الإنسان الأعلى، إن الإنسان شيء عليكم أن تتجاوزوه، فما الذي فعلتم لكي تتجاوزوه؟" ويكمّل "زرادشت" ويقولّهم: "مش لمّا بتشوفوا القرد، بيبقى بالنسبالكم أضحوكة؟ كذلك الإنسان بالنسبة للإنسان الأعلى، اللي عايزكم توصلوله، المفروض يكون أضحوكة هو كمان. " الطريقة الدرامية دي بتبدأ واحدة من أكتر القصص اللي أثّرت في العصر الحديث وفي شكل العالم اللي عايشين فيه النهاردة، واللي كتبها الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه"، في كتابه الشهير، "هكذا تكلَّم (زرادشت)"، أو بالبلدي، "(زرادشت) اتكلم كدا".
"فريدريك نيتشه" في الكتاب دا بيستخدم شخصية خيالية، بيسمّيها على اسم النبي الفارسي "زرادشت"، علشان يقول أفكاره على لسان النبي دا. بس تعالى قبل ما ندخل في الغويط، نحُط الكتاب دا على الرف شوية، علشان الجرعة دي من الجرأة والكتابة الشاعرية والصدامية مع الواقع محتاجين نهضمها الأول، قبل ما نكمّل كلام عن "نيتشه". "نيتشه"، صديقي الإنسان، اتعرف كفيلسوف ملحد، وداعية للإلحاد، بسبب الجملة بتاعته بتاعة "موت الإله" دي.
فهل كان "نيتشه" فعلًا ملحد، وبيدعو للإلحاد؟ ازاي نقدر نفهم فلسفة "نيتشه" من خلال كتاباته وحياته مع بعض؟ بخصوص إنه كان ملحد، فالأكيد، صديقي الإنسان، إن اللي هو قاله من شوية دا، مش كلام ناس مؤمنين. لكن نقطة دعوته للإلحاد دي، هي اللي عليها خلاف كبير، يعني مثلًا، لمّا هتفتكر الشيخ العجوز، اللي "زرادشت" قابله في الغابة، ولقاه مقضّي يومه بيسبّح ربنا، كان "زرادشت" حريص على إنه ما يسلبش الشيخ دا إيمانه، بل بالعكس، دا كان شايف إن الشيخ دا أصلًا في غنى عن دعوته، إن اللي محتاجين يسمعوا رسالة "زرادشت" في الأساس هما جموع البشر، اللي عايشين حياة مليئة بالغفلة والحيوانية، واللي حكموا أنفسهم بقانون الخوف والضعف، فعشان كدا، ما كانش بيقولّهم "الإله مات" من تلقاء نفسه، لأ، كان بيقولّهم: "نحن من قتلناه. " لأن فكرة الإله دي كانت حاضرة طول الوقت جوا الإنسان، وبدل ما الإنسان يستمد من صورة الإله دي القوة والشجاعة اللي هو محتاجها لإصلاح حياته، استمد منها بس مفاهيم الضعف والخوف، والصبر على حياته السيئة، اللي ما بيزيدهاش الصبر إلا السوء.
وبالتالي، الإنسان في نظر "نيتشه" كان محتاج شيء جديد يخرّجه من السجن اللي حبس نفسه فيه، وهو دا اللي "زرادشت" كان جاي بيه، دين مادي قادر يحكُم جموع الناس دي ويلمّهم حوالين شوية قوانين يتعاطوا بيها مع حياتهم المؤلمة، ويتعاملوا بيها مع بعض. "نيتشه" كان شايف إن الدين استفاد منه الأقوياء في توطيد شرعيتهم، واستخدمه رجال الدين في تثبيت حُكمهم، ودا أنتج مع الوقت إنسان أسوأ، إنسان متقهقر في إنسانيته، زي ما هو بيقول، لدرجة إنه أصبح بينافس القرد في قرديته! صديقي الإنسان، ويحك!
لكن هتلاقيه مثلًا، بيقول في مناسبة تانية، في كتابه، "ما وراء الخير والشر": لمّا "نيتشه" كتب، "هكذا تكلم (زرادشت)"، كان عنده 40 سنة في الوقت دا، وكتب تحت عنوان الكتاب شعاره الشهير: أو بمعنى تاني إنه كتاب أي إنسان يقدر يقراه ويفهمه، بس في الحقيقة، ما حدش فاهمه. ودي مش أول مرة "نيتشه" كان يتهم الجميع بإنهم مش فاهمين، بالعكس، طول الوقت كان بيقول إن الناس بتسيء فهمه، حتى في الأوقات اللي كان بيتلقى فيها الثناء على كتاباته، فتلاقيه بيقول برضه في كتابه "ما وراء الخير والشر": ودا اللي تقدر تستنتج منه شعور "نيتشه" الأساسي في الحياة، إن الوحدة كانت هي الشعور المسيطر عليه طول الوقت، والوحدة هنا بكل معانيها، الوحدة اللي وصّلته للحظة "زرادشت"، اللي كان بيكتب فيها، وكأنه بيكتب لعالم مش موجود فيه غيره هو، كأنه بيتخانق مع نفسه حَرْفيًا! وأي شخص عنده رأي في اللي "نيتشه" بيكتبه، هو أكيد غلطان، لأنه عايش في عالم تاني، غير عالم "نيتشه"!
عشان كدا، لمّا تقرأ "نيتشه" بعين العالم، هتلاقي نفسك بتشوف فيلسوف غاضب بيكره الستات، ومتهم بالإلحاد، وبيحتقر الفلاسفة كلهم! أهم "فانزاته" اللي بيدّعوا إن هما اتأثروا بكتاباته، واحد زي "أدولف هتلر"، اللي كان بيعتبره فيلسوف النازية، واللي استخدم "هتلر" مفاهيمه، عشان يعلن بيها تفوق العرق الآري، باعتبار إن هو دا يعني الإنسان الأعلى، اللي "نيتشه" يقصده، ومفاهيم تانية كتير، زي أخلاق السادة وأخلاق العبيد، وتقديس القوة وغيرها. لكن كل الاتهامات دي، "نيتشه" كان بيرد عليها بشكل فوري، واستباقي كمان أحيانًا، هتلاقيه بيقول على لسان "زرادشت": يعني، سهل إننا نعتبر "نيتشه" بيكره المرأة، وهنلاقي في كلامه دليل على دا.
لكن السؤال اللي محتاجين نسأله، هو بيكره أنهي مرأة بالظبط؟ سهل نعتبره بيحتقر الضعف، لكن سؤالنا لازم يبقى، هو إيه مفهوم "نيتشه" عن الضعف؟ زي ما نقدر إننا نعتبره ملحد، بس لازم نعرف إيه هو التدين، اللي هو فقد إيمانه بيه مع الوقت. عشان كدا، فلمّا تحب تفهم "نيتشه" عن طريق كلام الناس عنه، هتلاقي نفسك بتقرب للناس اللي بتتكلم عن "نيتشه"، مش "نيتشه" نفسه. ومحاولة الاقتراب من "نيتشه" عن طريق كلامه، هتنتهي بيك برضه إنك تحاول تسقط كلامه دا على حياتك انت، وتاخد موقف مش دقيق برضه، خصوصًا، إن كتابة "نيتشه" كتابة شاعرية مليانة تعبيرات مجازية، ودا السبب في إن كلامه طول الوقت كان حمّال أوجُه.
علشان ما يبقاش فاضل من محاولاتنا لفهم "نيتشه"، غير محاولة واحدة، هي وإنك بتقرأ لـ"نيتشه"، لازم تقرأ عن تجربة "نيتشه"، علشان تفهم هو كان بيخاطب مين، وبيقولّهم الكلام دا تحت تأثير شعوره بإيه، مين هما ناسه ومجتمعه اللي كانوا السبب في يأسه ووحدته، اللي كان عايز يعتزلهم ويطلع على الجبل، ويرجع يقولّهم: "إنكم أكثر قردية من أي قرد" دُول. لمّا تبدأ تعرف عن حياة "نيتشه"، بتبدأ تدرك إن من المستحيل فهمه بشكل كامل بدون أخذ حياته في الاعتبار، يعني مثلًا، هتلاقي "نيتشه" دايمًا بيحشر كلمة "الصحة" في مفاهيم كتير بيتكلم عنها، زي. .
. وعلى الجانب الآخر، هتلاقيه بيستخدم مصطلح "المرض"، في نقده للي مش عاجبه، فيسمّي الأفكار اللي مش عاجباه. .
. أو يوصف المجتمع بإنه "مجتمع مريض". حتى وصف الإنسان في مناسبة بإن الإنسان هو "الحيوان المريض"، The Sick Animal.
الغريب في الموضوع هو هجوم "نيتشه" دايمًا على المرض والمَرضى، ومدحه للصحة والأصحاء، مع الأخذ في الاعتبار حالة "نيتشه" الصحية. هنا، محتاجين نتكلم، صديقي الإنسان، عن حالة "نيتشه" الصحية. "نيتشه" كان شخص شديد المرض، واضطر إنه يتحمل في حياته قدر استثنائي من المعاناة مع المرض، سواء كان مرضه هو، أو في بعض الأوقات، مرض عيلته.
اتولد "نيتشه" في عيلة بسيطة لأب وأم بيحبوا بعض، كان هو الابن الأكبر، واللي جت بعده، أخته "إليزابيث"، وبعده، أخوه الأصغر "لودويك"، أبوه كان راجل دين مسيحي، كان قسيس في واحدة من الكنايس المحلية. لحد دلوقتي، الحياة ماشية على ما يرام، لحد ما أبوه اتشخص بمرض دماغي خطير، سببله آلام مفرطة في سنينه الأخيرة، واللي قضّاها وهو عاجز عن مهام حياته الأساسية بسبب الألم. راقب "نيتشه" كطفل عنده 4 سنين حالة والده الصحية وهي بتتدهور لحد الموت، ولسوء الحظ، إن صدمته الأولى في علاقته مع المرض اللي شافه بيقضي على حياة والده الشاب، ما بتكونش صدمة بيقدر يتجاوزها تدريجيًا، بل بتكون مجرد بداية، يتعرّف فيها على المرض، من أول ما بيفتّح عينه على الدنيا لحد ما بيموت.
بيموت والده بالطريقة دي، وبعدها بشهور قليلة، بيموت أخوه الصغير هو كمان، لمّا بيكمّل سنتين بمرض غير مُتوقَّع، وبيتبقى من العيلة الجميلة دي، "نيتشه" وأخته "إليزابيث" وأمهم. لمّا دخل المدرسة، مدرّسين "نيتشه" كانوا بيوصفوه بإنه طفل عديم المشاعر، وإنه باين عليه كدا إنه أكبر من سنه بكتير. ويمكن هي دي، صديقي الإنسان، مؤشرات صدمات طفولته النفسية.
لأننا بنعرف بعد كدا إن "نيتشه" ما كانش عديم المشاعر ولا حاجة، الراجل كان كتلة متفجرة من المشاعر والحرمان والمعاناة، لكن على الأقل، كان "نيتشه" لسة قادر في عمره دا إنه يكوّن صداقات. وفي الوقت دا برضه، والدته قررت بعد فترة من موت والده وأخوه الصغير، إنها تسيب المدينة، وترجع تعيش في بلدها الأصلية جنب إخواتها. الغريب في "نيتشه" في السن دا، هو مقدار المرونة في رد فعله على الحياة اللي رمت في وشه أسوأ حقايقها وهو طفل، "نيتشه" كان طفل إيجابي جدًا، خلّص ابتدائيته بتفوُّق، وبعدها، درس اللاهوت المسيحي، وبعدين، التحق بمدرسة ثانوية مسيحية، كأنه كان ناوي يكمّل مشوار أبوه الديني، وكأن إيمانه كان هو المعنى اللي بيحركه وقتها.
قرر "نيتشه" بعد كدا إن هو يكمّل دراسته لعلم اللاهوت في جامعة "بون"، لكن تجربته هناك كانت غير مُوفَّقة، ويمكن دا بسبب إن أساتذته كانوا متضايقين منه، بسبب جدالاته المستمرة طول فترة الدراسة، لكن ما قصّرش أبدًا لمدة سنتين في محاولاته للانخراط في المجتمع، وإيجاد دور لنفسه ورفقة حواليه، لدرجة إن هو حاول مرة إن هو ينضم لفريق الموسيقى في الجامعة، لكنه فشل برضه في التأقلم. "نيتشه" في اللحظة دي بتبدأ تجليات أزمته الوجودية مع الحياة، كأن كل محاولة بتنتهي بفشل هو مش فاهم إيه السبب فيه، هل هو ملعون؟ هل المشكلة في شنبه؟! ما حدش فاهم ليه بيحصلّه كدا!
أدرك "نيتشه" في اللحظة دي إن المكان مش مكانه، ويمكن الشعور العميق دا بالغُربة، كان اللحظة اللي بدأ فيها شَكّه في المسيحية، رغم إن كل محاولاته إنه ياخد بزمام الأمور ويبدأ من جديد، ويحاول يصلّح أضرار حياته، جايز يكون منبعها كان إيمانه بالله! لكن كأنه سأل نفسه في اللحظة دي، إيه الهدف من كل دا؟! أو حتى إيه المعنى إن كل محاولة مُخلِصة، أو مجهود مُخلِص بيبذله لفهم الحياة والتأقلم معاها، كان بيتقابل بالفشل والإخفاق بالشكل دا؟ لكن "نيتشه" كطفل مر بكل الصدمات دي، كان التخلّي عن إيمانه أشبه بالتخلّي عن الحياة ككل.
وهو الراجل ما كانش ناقصه شجاعة في التخلّي عن الحياة، بالعكس، يمكن كان أكتر شجاعة في إنه يرفض كل حقايق الحياة السابقة، ويقرر إن الحقيقة شيء مش موجود، ويبدأ رحلته في البحث عن تفسير للي بيحصلّه. في الوقت دا، بصفته كان راجل البيت، فأمه وأخته قابلوا قراره بإنه يسيب الجامعة دا، بشكل سلبي، وسمّعوه كلام من اللي قلبك ما يحبهوش، صديقي الإنسان، ووصل الموضوع لأنهم شككوا في إيمانه، يعني، بصراحة، كان عندهم حق. ومن اللحظة دي، فقد كمان دفا العيلة اللي في حياته، وساءت علاقته من الوقت دا بأمه وأخته الأصغر "إليزابيث".
قدّم بعدها "نيتشه" لدراسة اللغات القديمة في جامعة "لايبزبج"، ومع قبوله في الجامعة، بدأت حياته الجديدة تاخد شكل أفضل مرة تانية، على أنقاض الحياة القديمة، بكل ما يربطه بيها من عيلة وأصدقاء وحتى الدين، بدأ "نيتشه" يفقد إيمانه يوم بعد يوم، واللي كان يُعتبَر شيء غريب جدًا، إنك تكون عايش في بلد متدينة زي "ألمانيا" في القرن الـ19، وتكون مش مؤمن. الغرابة عن كل اللي حواليه، وفقدانه لحُبه لربنا دا، خلق فراغ عاطفي كبير في قلبه، وشوق ولهفة لتعويض الحُب دا في الحياة، لكن اللي حصلّه، إنه اترفض من كل الستات اللي حاول يقرب منهم، جايز برضه بسبب شنبه، الله أعلم برضه! تخيل معايا، صديقي الإنسان، شخص فتح عينه على الدنيا، على فقد أبوه، وانتهى بيه الحال بفقد جميع عيلته، وفقده لأصدقاء طفولته، وضياع كل القِيَم الدينية، والأسس اللي اتربى عليها واتعلمها لحد ما دخل الكلية، شخص بلا أصدقاء وبلا عائلة وبلا إيمان، وكل ما يقرب من بنت، ترفضه، الحياة دي هيكون شكلها عامل ازاي!
الشعور العنيف بالوحدة دا ازاي أثّر في قلبه! ولأنه كان وحيد، ولأن العملية كانت ناشفة زي المستشفى، قرر "نيتشه" إنه يطلّع طاقته في بيوت الدعارة، علشان سريعًا يُصاب بمرض الـSyphilis، أو الزُهري، واللي هيفضل يعاني من ضعف المناعة بسببه لباقي حياته. رغم إنك، صديقي الإنسان، كنت فاكر إن.
. . حياتك، بس لأ، انت في نعيم جنب الراجل دا.
تعمل إيه، صديقي الإنسان، لو انت مكان الراجل دا؟ فكّر شوية كدا معايا، وتعالى نشوف "نيتشه" هيعمل إيه. كمّل "نيتشه" دراسته واتخرج الأول على دفعته من الكلية، إرادة حديدية غير مفهومة لإنسان ما عندهوش أي سبب في الحياة، وبسبب تفوقه، اتوظف أستاذ في جامعة في "بازل"، واتعرف بين تلاميذه بأدائه التدريسي المتميز، لدرجة إن كان بتجمعه علاقة شخصية وخاصة مع كل تلميذ تقريبًا. وفي وقت فراغه، اتطوع لعلاج المرضى في المستشفى المحلي الخاص بالمدينة، إنسان مفرط في إنسانيته فعلًا!
رغم إن الحياة كافأته بالألم في كل مسعى من مساعي حياته، لكن أصر على التمرد وعدم التخلّي عن إنسانيته. لكن الحياة، صديقي الإنسان، تضرب من جديد، ويُصاب "نيتشه" بعدوى من المستشفى اللي كان متطوع بالعمل فيها، تمنعه من القدرة على التدريس مرة تانية في سن الـ34، وتخلّيه يسيب الجامعة ويعيش بمشاكل صحية جديدة، غير قابلة للعلاج لباقي حياته. مشاكل صحية وصفها "نيتشه" بنفسه بإنها.
. . سهل جدًا، صديقي الإنسان، إننا نقيّم كتابة "نيتشه" على الأساس دا، ونعتبره كان بيكتب من جوا اليأس والمرض دا، لكن دا ما زال تفكير خاطئ في "نيتشه".
بيقول الفيلسوف "جيل دولوز": وبيقول "دولوز" إن المرض عمره ما كان مَصدَر "نيتشه" للإلهام، لأن "نيتشه" كفيلسوف، رغم إنه عانى من المرض أكتر من الصحة، لكنه عمره ما فكر في إن الفلسفة شيء ممكن ينتج عن حالة مَرَضية، أو إنه ينتُج من الضيق والألم. "نيتشه"، رغم كل الألم دا، ما كانش بيقيّم العالم بنضارة المرض، وإنما ساعده مرضه دا كفيلسوف، في إنه يكوّن وجهة نظر عن الصحة من منظور مختلف، وإنه يكوّن في لحظات صحته منظور مختلف كمان عن المرض. وبعد أسابيع من المرض، يقضّيهم "نيتشه" في سريره، ينتهوا بيه إنه يصحى حاسس بصحة أفضل، تخلّيه قادر يقوم يقرا ويكتب من جديد، وينزل للشارع ويتكلم مع الناس، كأنه لسة مولود النهادة، كأن الحياة وُهِبَت ليه من جديد، فيكون قادر يشوفها بعيون نضرة وحواس يقظة، وبامتنان إنسان لم يطغَ عليه الألم ويمنعه إنه يستمتع بكل جزء، ولو بسيط، من أجزاء الحياة، وكأن كل شيء اكتسب سحره الإلهي تاني في نظره.
وفترات التعافي اللي حس "نيتشه" بسببها بجودة الحياة وبهجتها دي، هي اللي ألهمته في كتاباته لكتير من كُتُبه، زي واحد من أشهر كُتُبه، اللي كانت بهجته باينة على عنوانه، زي ما سمّاه، The Gay Science، أو "العِلم المَرِح"، العلم الـ. . .
يعني، بس المترجم كان مكسوف! للسبب دا، صديقي الإنسان، فهجوم "نيتشه" على المرض والمرضى ما كانش تقليل من قيمة نفسه بصفته مريض، لكنه كان راجع لفهم "نيتشه" لمفهوم الصحة نفسه، اللي فهمه أكتر من أي حد تاني، بسبب حياته اللي غلب عليها المرض. بالنسبة لـ"نيتشه"، مفاهيم زي الصحة والمرض دي هي مفاهيم نسبية، بمعنى إن الإنسان ما يقدرش يشوف مفهوم الصحة دا، غير على الجانب الآخر منه، اللي هو حالة المرض الشديد، وبالتالي، الشخص الصحيح في نظره مش الشخص الذي لا يمرض، بل إن الشخص السليم هو الشخص الذي قد يمرض بشدة، ولكنه مع ذلك بيكون قادر على التغلب على مرضه دا، أو حتى الاستفادة من مرضه دا بأي شكل من الأشكال.
وإن الصحة العظيمة مش الصحة اللي بيتمتع بيها الإنسان من البداية، وإنما هي الصحة اللي الإنسان بيكتسبها من جديد، بعد ما تروح منه. بيقول مثلًا في كتابه، Ecce Homo، "المرض قد يكون حافزًا قويًا للحياة ولزيادة الحيوية، الآن، وأنا أنظر للوراء على فترة مرضي الطويلة، أرى كيف تبدو الحياة لي من هنا. .
. يمكن دا اللي ممكن يفسرلنا جملته الشهيرة اللي بيقول فيها: "ذلك الذي لا يقتلني، يجعلني أقوى. " وفي واحدة من لحظات التعافي اللي مر بيها "نيتشه"، قرر إنه يعمل "زرادشت" بزيت التموين!
واتفق مع 2 من أصدقائه إنهم ياخدوا أجازة لمدة سنة، ويجربوا فيها حياة العزلة، بعيد عن صخب الناس والمدينة. أصدقاؤه كانوا الكاتبة "أندرياس سالومي"، والكاتب والفيلسوف "بول ري"، قرروا الـ3 إيجار بيت في مكان نائي، بعيد عن المجتمع، كل واحد فيهم كان عنده أهداف مختلفة من التجربة دي. لكن اللي اتفقوا عليه وقالوه لبعض بصوت عالي، إنها تجربة لمشاركة الحياة مع أفراد من نفس عقليتهم لمدة طويلة، واكتشاف العزلة المشتركة.
لكن "نيتشه" لم يكن يعلم أن فرحته لن تكتمل، لسوء الحظ، وقع "نيتشه" هو وصديقه "بول" في حب "سالومي"، وكل واحد فيهم كان بيستنى التاني ينام، علشان يروح يتغزّل فيها ويحاول يميّل قلبها ناحيته، وفضلوا طول الأجازة، صديقي الإنسان، يعلّوا على بعض، لدرجة إن "بول" عرض الجواز على "سالومي"، ورفضته. هنا، "نيتشه" قالّك: "بس، رفضته، عشان عايزاني أنا. " وراح عارض عليها الجواز هو كمان، ورفضته برضه.
"نيتشه" قال في نفسه: "جايز هي عملت كدا يعني، عشان ما تبوّظش العلاقة اللي بيني وبين (بول)، ويبقى احنا الاتنين اترفضنا. " قالّها: "تمام يا (سالومي)، خلاص، أديكي رفضتيني يا ستي أهو، عشان ما تزعّليش (بول). ها؟ قُلتي إيه بقى؟ تتجوزيني؟" ورفضته "سالومي" للمرة التانية.
و"نيتشه" أصر يكرر العرض تالت، واترفض لتالت مرة. واضح، صديقي الإنسان، إن "نيتشه" ما كانش بيقبل الرفض، أو إنه كان بيعتبر "سالومي" حُب حياته، لدرجة كانت مخلّياه صعب يتقبل رفضها ليه، خصوصًا، لمّا تعرف إن "لو سالومي" دي وقّعت في حُبها 2 تانيين من أهم الكُتّاب في التاريخ، حسّاس القرن الـ19، الشاعر "راينر ماريا ريلكه"، وعالم النفس ومؤسس جايزة "الأم المثالية"، الراجل اللي اتفطم قبل معاده، "سيجموند فرويد". واضح إن "سالومي" دي كانت "مي زيادة" بتاعة "ألمانيا"!
المهم، ما علينا يعني، إن رحلة "بول" و"سالومي" و"نيتشه" قابلت صعوبات كتير من النوع دا، لدرجة إن هما الـ3 قطعوا أجازتهم ورجعوا قبل ما يكمّلوا السنة اللي اتفقوا عليها، ودا طبعًا من كتر ما "بول" و"نيتشه" مش عارفين يقعدوا مؤدبين! بعد الرحلة دي، "سالومي" اتخطبت لـ"بول"، عشان تكسر قلب "نيتشه"، وتسيبه يعاني الأضرار وحيدًا كعادته. كتبت "سالومي" بعد كدا سيرة ذاتية عن "نيتشه"، ومن المُلفِت اللي هي اتكلمت عنه، إن كان فيه شيء في الطبيعة الروحية لـ"نيتشه" مُناصِر للمرأة.
"(نيشته) اللي احنا نعرفه دا؟! اللي ما بيسيبش فرصة إلا لمّا يشتم المرأة؟! " قالتلك: "آه.
" بل إن "نيتشه" في نظر "سالومي"، بيشوف إن من العبقرية إن الإنسان يكون عبقري في الطريقة اللي بيناصر بيها المرأة، ودا هو هو "نيتشه"، اللي بيقول في واحدة من كتاباته اللي بيتعرّض فيها للمرأة، يعني، الست لمّا تبقى راجل في نفسها كدا، وعندها جدعنة الرجالة، اهرب منها. "وعندما لا تكون لها فضائل ذكورية، فهي التي تهرب. " ما تقلقش، هي كدا رايحة، وكدا رايحة!
واضح إن "سالومي" دي، صديقي الإنسان، ما كانش عندها أي فضائل ذكورية، عشان كدا، كانت بتهرب على طول! يمكن لو كان ليها فضائل ذكورية، كنا فقدنا نُص أدب العصر الحديث، باعتبار إنها كسرت قلب "نيتشه" و"ريلكه" و"فرويد"! لكن رغم إن "سالومي" بتشوف إن "نيتشه" كان مُناصِر للمرأة، فاحنا مش هنقدر نتأكد من الجزئية دي خصوصًا، اللي بتقولها "سالومي".
لأن "نيتشه" عشان يتوددلها، كان لازم يعمله نفسه Feminist، أكيد كان بيقولّها إن صوت المرأة ثورة، وبيطلبها إزازتين بيرة على قهوة "الحرية"، وهو بيحكيلها على "قاسم أمين"! وبعدين، صديقي الإنسان، هي مين الست اللي بلّت ريق الراجل دا أصلًا في حياته، عشان يطلع بيقدّر المرأة؟ دا لا أم ولا أخت ولا حبيبة! دا الست الوحيدة اللي وافقت عليه، كانت بفلوس، وجابتله Syphilis!
لكن رغم آرائه المثيرة عن المرأة دي، لمّا تتأمل في مواقف "نيتشه" الشخصية في حياته، هتقدر تفهم إنه ما كانش عنده مشكلة مع المرأة بالشكل التقليدي اللي الناس متخيلاه، يعني مثلًا، أخته "إليزابيث"، برغم إنها كانت تقريبًا مش متعلمة، بعكسه يعني، ويمكن المدرسة الوحيدة اللي دخلتها، كانت مدرسة لتعليم برامج الطبخ وتنظيم الأسرة و"كيف تصطادين عريسًا"، والكلام دا، لكن "نيتشه" لا يُذكَر أبدًا إنه تعامل مع أخته دي بأي شكل يخلو من التبني لفكرة المساواة، يمكن بالعكس، إنه كان طول الوقت بيحاول يرشحلها كُتُب للقراءة، بل ويساعدها على بناء شخصيتها ومعرفتها المستقلة. في 1874 مثلًا، وقت ما كان "نيتشه" مدرّس في "بازل"، اتعمل في الجامعة تصويت داخلي على فكرة قبول الستات للدراسة في الجامعة ولّا لأ، وكان "نيتشه" واحد من ضمن 4 أشخاص صوّتوا بـ"نعم" على القرار، لكنهم خسروا التصويت. دا غير سفره في 1876، ومناصرته للناشطة النسوية "مالفيدا فون مايسنبوغ" وانضمامه ليها في نضالها لتحرير المرأة في "إيطاليا".
مواقف "نيتشه" اللي بتدل على احترامه للمرأة كتير، ونقدر نعتبره مناصر للمرأة، حتى بغض النظر عن رأي "سالومي" نفسها. انتهى "نيتشه" بعد كدا من كتابة كتابه الأشهر، "هكذا تكلم (زرادشت)"، وفي يوم، وهو راجع من عند الناشر، عشان يستعجله في نشر كتابه، لأن الراجل كان محتاج فلوس، قابل راجل في الشارع بيضرب حصانه بكرباج بمنتهى العنف، اتأثر "نيتشه" من المشهد دا، وجري على الحصان وحضنه، لدرجة إن فيه واحدة أو اتنين من ضربات الكرباج نزلت على جسمه هو في الوقت اللي كان حاضن فيه الحصان اللي بيتألم، وبيقولّه كلمة واحدة بس، وبيكررها، بيقولّه: "أنا حاسس بيك! أنا حاسس بيك!
" وقع بعدها "نيتشه" في حالة إغماء، وفقد الاستجابة وفقد القدرة على رعاية نفسه، وكمّل حياته بعد كدا مستلقي على سرير، في بيت أخته "إليزابيث". كان "نيتشه" قبلها بسنين قاطع علاقته بأخته، وبالتحديد، لمّا اتجوزت من "برنارد فورستر"، اللي كان مؤسس واحدة من مستعمرات النازية باسم "(ألمانيا) الجديدة" في "باراجواي". "نيتشه" وقتها استنكر اللي جوز أخته عمله، وبعتلها رسالة بيعنّفها فيها وبيعتبرها ضمن قطيع معاداة السامية، عشان ما يكلمهاش تاني لباقي حياته.
لمّا انتهت تجربة مستعمرة "باراجواي" بالفشل، انتحر جوز أخت "نيتشه"، ورجعت "إليزابيث" لـ"ألمانيا" في أول 1890، وكان عليها وقتها ديون كتير، نتيجة فشل مشروع جوزها وانتحاره، وبصّت كدا، وفكرت شوية، فلقت في نجومية أخوها "نيتشه" فرصة إنها تتولى أموره بعد ما أصابه انهيار عقلي، خصوصًا، إن كتاب "نيتشه" الأخير، اللي كان بيستعجل الناشر عشان يطبعه دا، كان حقق شهرة ونجاح ساحق. "إليزابيث" قالتلك: "إن أنا أبقى مديونة، وكمان، محرومة من عز أخويا، دا يا أخي الدم عمره ما يبقى ميّه! " من هنا، اعتبرت "إليزابيث" نفسها وصية على ميراث أخوها الفكري، وبعدها، خرجت "إليزابيث" على العالم بمجموعة أوراق "نيتشه" الأخيرة، اللي حررتها "إليزابيث" وقدّمتها على إنه عمله الأعظم والأخير، واللي، يا عيني، ما لحقش يخلّصه قبل ما يموت!
تحت عنوان، "إرادة القوة: محاولة لقلب كل القِيَم". النازيين شافوا الكتاب من هنا، وقالّك: "بس، (نيتشه) دا فيلسوفنا المفضل. فيلسوف النازية، (نيتشه)، هو فيه زي (نيتشه)؟!
" وبقى "نيتشه" فرخة بكِشك عند النازيين! وفي 1934، زار "هتلر" "أرشيف (نيتشه)"، اللي عملته أخته في "فايمار"، وأهدت "إليزابيث" "هتلر" عصاية المَشي بتاعة "نيتشه". سُمعة "نيتشه" بقت في التراب خلال الحرب العالمية التانية، لمّا أهدى "هتلر" "موسوليني" طبعة من أعماله الكاملة، اللي فيها كتاب "إرادة القوة".
الغريب إن "هتلر" نفسه ما قراش "نيتشه"، لا قبل النازية ولا بعد النازية! لمّا "ليني ريفنستال" مُخرِجة فيلم "إرادة الانتصار"، اللي هو الفيلم الدعائي النازي، واللي اسمه متشابه مع إيماء "إرادة القوة"، سألت "هتلر" إذا كان قرأ "نيتشه"، و"هتلر" نفى. لكن الفيلسوف "ألفريد بيوملر"، فيلسوف البلاط النازي، هو اللي حوّل "نيتشه" للمتنبئ بـ"هتلر"، ودا طبعًا بتحريض من أخته "إليزابيث".
بعد الحرب العالمية التانية، ظهر فيلسوف ومترجم ألماني اسمه "والتر كوفمان" سنة 1950، ووضّح زيف كتاب "إرادة القوة" دا. اشتغل "كوفمان" على إعادة ترجمة "نيتشه" للغة الإنجليزية، وصحح في أذهان الناس إن "نيتشه" كان بيكره كل مُعادي السامية الألمان والقوميين، بنفس الدرجة اللي بيكره بيها المتصوفة الرومانسيين. زي مثلًا، كلامه ضد القومية أو لمّا قال إن جُمَل وكلمات من نوعية "(ألمانيا) العظمى" و"(ألمانيا) فوق الجميع" هتكون هي السبب في نهاية الفلسفة الألمانية.
بالتالي، أصبح "نيتشه" بريء من كل الاتهامات اللي اتوجهت ليه، وما فيش حد دلوقتي يقدر يدّعي ويقول إن "نيتشه" دا كان نازي، أو مُعادي للمرأة، أو حتى بيدعو للإلحاد، إلا لمّا يكون اتهامه لـ"نيتشه" بدا إشارة على إنه ما قراش "نيتشه" أصلًا بشكل حقيقي. الإنسان الأعلى بتاع "نيتشه"، ما هواش حصر على العرق الآري بتاع "هتلر"، الإنسان الأعلى هو مجموعة من القِيَم اللي بينصحنا بيها "نيتشه"، عشان نقدر نمسك بيها زمام أمور حياتنا، في عالم بتحكمه المادة. نصايح مثلًا، زي إنك عشان تكون إنسان أعلى في نظر "نيتشه"، محتاج إنك تتغلب على معايير المجتمع وتوقعاته منك، بإنك تخلق قِيَمك الخاصة، اللي قايمة على وجهة نظرك واختياراتك الحرة، بدل ما إنك تورث قِيَم المجتمع وأعرافه اللي بيفرضها بسُلطته عليك.
إنك تتجاوز ذاتك، بألمها وتجربتها وعداواتها، عشان تقدر تسمو عليها وتكون حُر منها، وتاخد موقف جديد من العالم غير مبني على تجربتك الشخصية، وإنما موقف حُر وعفوي وصادق، وقايم على تقييم غير منحاز. إنك تعيش بشغف، وإنك تشوف العالم بعيون طفل، لسة ما فقدش دهشته ليه وفضوله ناحيته، وإنك تقبل المعاناة وتقبل الألم اللي هتتعرّضلهم في حياتك. إن كل مقدار من السعادة انت بتسعى ليه، لازم تتقبّل قصاده نفس المقدار من الألم والمعاناة، لأن هي دي الشجاعة الحقيقية في استيعاب الحياة، بل وإنك تكون على يقين إن الألم دا هيمنحك معرفة وخبرة وذكاء أكتر من اللي كنت بتتمتع بيهم قبله، وهيساهم في نُضج شخصيتك ورؤيتك للعالم.
وإن الحياة الجميلة مش الحياة اللي فيها أكبر قدر من المتعة، أو أقل قَدْر من الألم، لأ، إنك تحب الحياة بكل جوانبها، وإن حُب القَدَر معناه إن أي شيء بيحصلّك إما هو جميل أو ضروري، وإنك تثق في نفسك وفي حدسك، وما تحتقرش غرايزك، بس تتعلم منها ومن كل اللي بيقولهولك جسمك، وتعرف إنك أفضل صديق لنفسك، وفي نفس الوقت، أكبر عدو ليها. الجميل في كل نصايح "نيتشه" دي، إنك دايمًا بتحسها نصايح من إنسان بيحبك، وتستغرب ازاي شخص تقبّل كل هذا القَدْر، من الحظ العثر أو الإخفاق والألم والمعاناة والرفض، قدِر يحول كل دا لطاقة من الحُب والرغبة في الحياة، كأن "نيتشه" طول الوقت، ومع كل إخفاق، كان بيحاول إنه يلاقي تفسير وسبب يخلّي الاستمرار في الحياة يستحق كل هذا القَدْر من المعاناة، أو زي ما "نيتشه" نفسه بيسأل: "ما الذي يجعل المرء بطلًا؟" ويجاوب: "أن يلمس في اللحظة ذاتها أكبر قَدْر من المعاناة مع أعلى درجة من الأمل.
Related Videos
فلسفة نجيب محفوظ | في الحضارة
22:48
فلسفة نجيب محفوظ | في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
171,875 views
نظرية التطور│ في الحضارة
20:33
نظرية التطور│ في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
196,055 views
فن التشاؤم | الدحيح
29:54
فن التشاؤم | الدحيح
New Media Academy Life
3,126,510 views
فريدريك نـيـتــشـه
52:16
فريدريك نـيـتــشـه
د. زكي سالم
28,436 views
سلطة السخرية .. إلى أي مدى يمكننا أن نسخر من كل شيء؟  | في الحضارة
17:26
سلطة السخرية .. إلى أي مدى يمكننا أن نسخر ...
AlarabyTube - العربي تيوب
126,811 views
الدحيح | علم الشخصية
20:06
الدحيح | علم الشخصية
Museum of The Future متحف المستقبل
5,263,648 views
إنت فقير ليه؟ | في الحضارة
22:53
إنت فقير ليه؟ | في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
143,543 views
What you don't know about Nietzsche | An interview with Hamza Suleiman @Qahruman
1:54:09
What you don't know about Nietzsche | An i...
الدعوة الإسلامية eld3wah
189,565 views
المنظمة السرية التي تحكم الأرض المسطحة خلف الجدار الجليدي | الدحيح
30:11
المنظمة السرية التي تحكم الأرض المسطحة خلف...
New Media Academy Life
1,966,554 views
تصرّف وكأنّ شيئًا لا يزعجك | 11 درسًا من الفلسفة الرواقية لتصبح لا يتزعزع
54:12
تصرّف وكأنّ شيئًا لا يزعجك | 11 درسًا من ا...
Ρομπσπιέρ
65,508 views
Alaraby TV News Live قناة العربي أخبار | البث الحي المباشر
Alaraby TV News Live قناة العربي أخبار | ا...
العربي - أخبار
ميكافيلي ذو الوجهين | في الحضارة
24:02
ميكافيلي ذو الوجهين | في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
214,240 views
مراية العميد طه حسين | في الحضارة
32:07
مراية العميد طه حسين | في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
101,988 views
مقدمة ابن خلدون - الملخص الشامل
26:21
مقدمة ابن خلدون - الملخص الشامل
ReadTube - جيل يقرأ
6,128,626 views
عن الفيلسوف الألماني نتشه وأعلان الفضيحة | د. المسيري
20:43
عن الفيلسوف الألماني نتشه وأعلان الفضيحة |...
NAGM (‫نجم‬‎)
318,377 views
بحب نفسي | في الحضارة
26:06
بحب نفسي | في الحضارة
AlarabyTube - العربي تيوب
177,884 views
مشاهد مخزية لجسر الاردن .. ومسئولة أممية مصدومة من خيانة حكام العرب .. وسر هروب رئيس الكيان !!
30:32
مشاهد مخزية لجسر الاردن .. ومسئولة أممية م...
العراف
448,895 views
تاريخ القهوة الحقيقي وسبب تحريمها قديماً في الإسلام  | أنس آكشن
23:40
تاريخ القهوة الحقيقي وسبب تحريمها قديماً ف...
أنس
579,584 views
الهجرة - هل نترك بلادنا الفقيرة أم نتجنب الغربة؟ | في الحضارة
17:11
الهجرة - هل نترك بلادنا الفقيرة أم نتجنب ا...
AlarabyTube - العربي تيوب
361,382 views
كيف يصبح الإنسان مثقفاً؟ | حسين سعدون
1:32:54
كيف يصبح الإنسان مثقفاً؟ | حسين سعدون
مجتمع Mujtama
403,421 views
Copyright © 2025. Made with ♥ in London by YTScribe.com